أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / حفيد سندباد .. تعانق الرقم والحرف ، وليس الحرف والرقم . 

حفيد سندباد .. تعانق الرقم والحرف ، وليس الحرف والرقم . 

المرصد نيوز  /بقلم  -فاروق مريش

قراءة نقدية مقدمة من الروائي فاروق مريش في فعالية ختام دورة الروائي حبيب سروري في نادي القصة .

 

التجسس الكامل على البشرية ، التنبؤ بالمستقبل السياسي والاقتصادي للعالم ، جمال الحرف والحب والحرفة والفنون الإنسانية الشتى ، التنوير الفكري والعقلي ، الروبوتات الآلية ومستقبلها ، والاستسلام البشري التام لمنتجات التكنولوجيا المدمرة .. كل هذه الهواجس المسيطرة على الرجل الرقمي المنغمس في أسرار اللغة والميثولوجيا تمثل حالة من حالات الفيلسوف الجامع والاستثنائي .

 

( الحياة هي سيمفونية عزفتها البشرية وسمعتها في نفس الوقت ) هكذا قال حبيب عبد الرب سروري ، الذي يبلغ من العمر في هذا التوقيت الذي أحدثكم به من هذا العام  66 عاماً ، أسرد لكم سيرة حضارية للتطور البشري من خلال رواية ” حفيد سندباد ” البالغة 222 صفحة !

 

للتو تستوقفني الأرقام المتشابهة 6 و 6 في عمره، و 2 2 2 في عدد صفحاته ، توالي المتشابهات في رواية الرجل الرياضي الحاسوبي اليمني الفذ ، نحتفي اليوم بأحد علماء الرياضيات التطبيقية المرتبطة بعلوم الحاسوب البرمجية والذكاء الاصطناعي ، قبل احتفائنا به أديباً وأيقونة يمنية عالمية !

 

أكتب إليه وإليكم وإلى نفسي الشغوفة بتعقيدات الأرقام ، وغرائبية الأسفار  ، وجمالية الخيال العلمي .. متسائلاً لماذا هذه البداية الرقمية !

 

هل هي من صنيعة الصدف فعلاً كما قال نادر الغريب بطل هذه الرواية : ( الحياة متاهة تصنعها الصدف والمفاجآت ، الحاجة والضرورات ، الغدر والخيانات ).

أم هي من تدابير العقل الروبوتي بهلول الذي زامن المهام اليومية لعلوان الجاوي مع لحظة انتزاع الحاسوب المحمول من برميل القمامة كما تساءل الراوي في نهاية الرواية ؟

 

كل هذا غير مهم ولن تفيد الإجابة عنها سوى أننا نشير أن هناك روائي يمني شامخ يقف بالتوازي مع برجل إيفل ، له حياة علمية في اللغة التي كُتبَ بها الكون وهي لغة الرياضيات ، حلَّ معادلات توقف التاريخ بسببها لقرون من الزمان ، وتوج على أثرها بأعلى المسميات العلمية في أرفع الجامعات الأوروبية ، فحين يمتزج كل هذا العلو في العلوم ، مع جينات سندباد ورحالة يعشق ويوثق للسفر ، ثم يُخلد رسالته الأدبية والإنسانية بين دفتي رواية .. فأنت بحق على موعد مع ملحمة فلكلورية خالدة .

 

لكل هذا يحق لنا كيمنيين منفيين في غياهب الكوكب الأزرق أن تبيض وجوهنا زهواً حين لم نعد نملك سوى الزهو ، زهونا بتاريخنا الذي لم ينفعنا في حاضرنا .. لا أشك أن تاريخاً كالذي قرأناه عن يمنات سبأ وحمير لا يخبئ في طياته أمثال هذا الكائن الاستثنائي الذي تمازجت فيه كل حكايتنا العتيقة وأمنياتنا التي لم تتحقق وهو يجثو على ركبتيه ، منحنياً على ظهره ، متقوساً في عقود السبعينيات والثمانينيات ، منكباً على حفر اسم وطنه بين الخوارزميات والمعادلات المعقدة التي تقوده إلى معادلات أعقد كواقعنا اليمني بكل حيثياته .

لم أستفق من صدمة أني أكملت رواية حفيد سندباد بهذه السرعة الضوئية التي بترت متعتي وأنا أجول العالم بكل قدرات الوصف للمكان لدى حبيب سروري .

وصفٌ تصويري يضعك روحياً في ضريح تاج محل، تماماً كما لو كنت تشعر بزرقة المرمر واحمرار العقيق وبياض الرخام المتلألئ بكل فنون العمران الآسيوي ..

بكل إحساس الإنسان المتداعي صوفياً يهمس في ص 120 ، أثمة يا ولدي ما يفوق جمال هذا التفاعل بين الفن المغولي الهندي ، والعربي الفارسي ؟

أثمة ما هو أكبرُ نبلاً من تفاعل الفنون والحضارات ؟

 

هذه الأسئلة وغيرها هي مكمن الرواية وذروتها ، أسئلة صيغت من خلال عالم الرياضيات النظرية اليمني علوان الجاوي ، واستفهاماته القلقة حول الروبوتات المؤنسنة واهتماماته بمستقبل الأرض والبشرية ، وتأثيرات التكنولوجيا التي صيرت الإنسان مستسلماً لكل سطوتها ومسلماً فهمه وعقله لها ؟

وبين عالم البرمجيات الحاسوبية وصانع التطبيقات الذكية الرحالة المغربي نادر الغريب ..

 

عندما قرأتُ حبيب سروري كروائي ناسج للحرف ، غير صائغ للحل ، هالني جداً قدرته الحكائية ، وقدرته الخرافية على التشبث بالشخصيات وعلاقاتها ومستوى الحبكة المتصاعدة علواً بكل ثقة واتزان ، احترت في تجنيس ما اقرأ !

 

هل اقرأ بناءً هندسياً ، أم نصاً صيغ بلغة التسلسل المنطقي ، والجبر البولي ، وخوارزميات C ++ ؟

 

كمية الدوران التي ستربكك جداً وأنت تحاول فهم إمكانية أن يصيغ روائي بشري تسع مستويات لقصة واحدة بداخلها علاقات وارتباطات لا متناهية من التفرعات والحكي الجديد ..

ستقرأ مسار العلاقة التي جمعت علوان بروبوته المؤنسن بهلول ، وكيف تطورت لتصبح من علاقة احتياج إلى علاقة خوف وسيطرة ؟

بداخلها علاقة المسار الرئيسي الذي يرويه علوان الجاوي لسيرة نادر الغريب من خلال حاسوبه المرمي في الزبالة ؟

علاقة علوان بفريال وانتهاء العلاقة برحيلها المفاجئ .

علاقة علوان بايزابيلا وانتهاء العلاقة برحيلها المفاجئ .

علاقة علوان بمايا وانتهاء العلاقة برحيلها المفاجئ .

مدى التشابه في النهاية الشقية لكل علاقاته العاطفية والصادقة ؟

لماذا حين تاقت روحه لهن طوال عمره ، خفت نبضه حين التقى بهن بعد حين ؟

 

ستقرأ وسط كل هذه المستويات علاقة نادر وهيلين ورحلاتهما ومغامراتهما السياحية السعيدة ؟

 

ستنبثق لك أبطال إنسانية لخصت الظلم الإنساني الذي تعرض له الإنسان في هذا الكوكب مثل شخصية سائق التكتوك في كمبوديا فان ديت ، وهو يلخص مأسات الفقد وصور الرحيل الوحشية في ذلك المطعم القريب من السجن المرعب S21 بقواعده التي تحيلك طفلاً مرتجفاً ، كان بسكب دموعه المحتبسة منذ زمن في ص 68 قائلاً :

( عندما تفقد إنساناً واحداً تنفجر دموعك ، لكن عندما تفقد 368 من أهلك وذويك فالأمر مختلف تماماً ، لا تشعر برغبة بالبكاء ) ، هنا يستحضر الراوي قول جزار الملايين ستالين :

( موت إنسان واحد تراجيديا ، لكن موت ملايين مسألة إحصائية ).

 

لا يكتفي حبيب سروري بهذه المستويات المعقدة في نسج روايته بل يجعل من معركة العالم الرياضي النظري ديمتري  مع العالم الرياضي التطبيقي ميشيل في المختبرات الرياضية ، معركة علمية مصيرية يبقى العالم بسببها أو يزول !

وبذات الوقت ينسف هذه الهالة للعالم الكبير والنزيه ديمتري حين يخسف به أرضاً كرب أسرة أناني ، ويحيله إلى أدنى مراتب الإنسان وهو يتنكر من ابنته ويتباهى عليها أمام الملأ في يوم المناقشة النهائية لرسالتها العلمية ؟

أي مقدرة لغوية لديه وهو يستخدم الرفع والخفض والنصب والتسكين للحرف الواحد والشخص الواحد في آن ؟

يصف الوجوه في كل العالم ، يجول في المقاصد النفسية ، في تفاصيل الدول والقارات والحضارات ، يلملم شتات التاريخ ، ليقرأ به كف التيه لمستقبل البشرية ، بجفاف مفردات الساسة ، والمؤشرات البيانية للاقتصاديين ، وبعد النظر للمفكرين ، نراه يستنطق كل اللوحات المرسومة في الكاتدرائيات والكنائس والمساجد ، والدور الأثيرة ، ليهمس لنا عن مصيرنا ؟

 

فهمتُ حبيب سروري هذا الاستثنائي في 222  ، على نحو فيلسوف أفنى 66 عاماً من عمره وهو يجاهد أن يصيغ معادلة واحدة بني بها الكون ، معادلة يكتبها بلغة العلم والفن في آن ، بعد أن أيقن أن الأرقام وحدها لا تفي بالغرض ، بل تحتاج لعناق الحروف .

 

كل الأشياء تحن للعناق ، فبين المغترب وووطنه حكاية عناق مأمولة ، وبين المرء ومعشوقته ثقوب سوداء ابيضت بالعناق ، ووسط جزيرة الأشقاء السبعة في أبخ جيبوتي والشط المقابل لها من جهة اليمن تتعانق قارتين في برهما على أمل التدامغ الإنساني ، وهكذا هي رحلة الحنين بين التشابك العصبوني الدماغي وبين الأفكار المتقافزة نحو التجديد والتطوير .

 

وأخيراً يحق لي باسمكم أن أعتز بالتاريخ وطفراته الجينية التي تظافرت جداً وهي تنتج عقلاً يمنياً خالصاً لذةً للقارئين .. روائياً عالمياً يحاول رسم صورة عن المستقبل وهو يستشرف أسباره العلمية بحنكة واقتدار ، برحالة يصيغ وحدة إنسانية تجعل من الكوكب كله وطناً للعابرين ، حين رشقنا بجملة على لسان الفيلسوفة الشاعرة حنة آرنت : ( سعيد من لا وطن له ).

لكنه ورغم دعوته لاستعادة الأنسنة والتفكير وروحه الشغوفة بالبحار والأودية والقصور والجزر والترحال بين المنافي والسجون والحدائق المترامية في كل العالم البري والمائي ، في شتى المطارات والموانئ ، رغم انبهاره بحضارات ، واحتقاره لأخرى إلا أنه لا ينسى منبعه الذي ارتعى فيه أيام تشكله الأولى ، حين بدأ ينحت على صخرة ذاكرتنا  :

( اليمن ليست بلداً ، هي عشقٌ يصطلي به كل من اندغم به ).

 

15-11-2022

عن المرصد نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة عشر − عشرة =